عندما كثرت المشكلات الأسرية في أيامنا هذه، برزت قضية الفجوة بين أجيال الأسرة الواحدة، فبات كثيرٌ من أفراد الأسرة على شتى مراحلهم العمرية ومراكزهم الأسرية يشتكون من وجود حواجز بين أبناء الأسرة الواحدة، ولعلك تسمع شابًا يقول: أبي لا يفهمني ولا يعرف احتياجاتي! ووالدٌ يقول: أبنائي لا يقتنعون بكلامي! وفتاةُ تقول: أمي تسيء الظن بي! وأمٌّ تقول: فتاتي ليست صريحةً معي.
ونستطيع أن نشير إلى أسباب تلك الظاهرة في النقاط التالية:
أولًا: كثرة الأعباء الحياتية، والانشغال بلقمة العيش:
نرى أن من أهم أسباب وجود فجوة كبيرة بين الآباء والأبناء؛ هو وقوع الأسرة في طاحونة الأعباء الحياتية، ودوران الآباء والأمهات في دوامة البحث عن لقمة العيش في زمن تتزايد فيه معدلات الفقر، وتتآكل فيه الطبقة الوسطى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
الأمر الذي يجعل الآباء في معزل عن البيت فتراتٍ طويلة، حتى ترى من بين الآباء من يمتهن أكثرة من مهنة ليصل بمستوى أسرته الاقتصادي إلى الوضع المأمول.
فيأتي الأبُ في ساعات متأخرةٍ من الليل والبيوت في سبات عميق، الأمُ منهكة، والأولاد نائمون، لم تسنح لهم معيشتهم الصعبة أن يجلسوا على مائدة واحدة ولو لمرة واحدة في اليوم.
لم يقتصر التقصير في حق الأولاد، أنْ يجلس الأبُ إليهم يعلمهم ويربيهم، بل امتدد التقصيرُ إلى الفرائض والواجبات الشرعية كالصلاة في أوقاتها، وصلة الأرحام، ونحوهما.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
وهي حياةُ الفتنة بعينها، حينما ينشغل الآباءُ في تلك الدوامة، فتضيع الحقوق.
قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذه الآية:
ومعلوم أن اشتغال الناس بأموالهم والتلاهي بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم وهذا هو الواقع حتى إن الرجل ليستغرقه اشتغاله بماله عن مصلحة ولده وعن معاشرته وقربه[1].
وهي حياة القوم الفاسقين الذين انشغلوا بأعراض الدنيا عن تلك الواجبات.
قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ثانيًا: الفارق الثقافي:
وللفارق الثقافي المتباين بين الآباء والأبناء أثره في اتساع الفجوة بين الجيلين، فأنت ترى كثيرًا من الآباء ممن لا يجيدون الكتابةَ والقراءة وقد رزقهم الله بذرية نالت قسطًا وافرًا من التعليم لم يتمتع الأبُ بمعشاره، فترى الأبُ يفكر بطريقة الأمي، والابن يتقمص دور المتعالم الذي يعلم كل شيء، ثم يقف الأبناء أمام تلك الإشكالية قائلين كيف نتواصل مع آباء وهم لا يعلمون، وليسوا في مستوى المثقفين، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
ثالثًا: الفارق العمري:
وهو فارق السن الكبير بين الآباء والأولاد في عصرنا هذا، وذلك يأتي بطبيعة الحال من وراء تأخر سن الزواج، وتفشي العنوسة، وغلاء المعيشة، وتحديد النسل، فإذا ما حصل الزواج والإنجاب كان فارق السن كبيرًا، فتضيق مساحة التوافق الثقافي والعلمي والفكري بين الآباء والأولاد.
رابعًا: غياب التوعية التربوية:
كذلك جهل الآباء بمنهج التربية السليم، وغياب الوعي التربوي داخل البيت من العوامل المؤثرة في اتساع الخرق.
فالآباء يربون الأبناء بطريقة تقليدية موروثة، ليست ممنهجة، ولا تتمتع بأي مرحلية، ولا تأخذ في الاعتبار أسس تربوية لا غنى عنها، كمراعاة الفروق الفردية، والتدرج في العقاب، والتوازن بين الترغيب والترهيب، والفهم الجيد لمرحلة المراهقة... إلى آخر هذه الأسس التي يجهلها كثيرٌ من الآباء، وتساعد في إحداث تلك الفجوة بين الأجيال.
خامسًا: غياب الوازع الديني:
وهو أهم الأسباب، فالبيوت المؤمنة الصالحة التي تأتمر بأمر الله، وتنتهي عما نهى الله، هي بيوتٌ سعيدةٌ بحق، لا انفصام لها، وهي قائمةٌ قوية لا تهزها القواصف، ولا تحركها الهزاهز.
فالأب يتقي الله في أولاده ويؤدي ما عليه لهم، من رعاية وتربية وإرشاد، والابن، كذلك، يتقي الله في أبويه، ويؤدي ما عليه، من بر وإحسان.
ولقد جعل الإسلامُ كل فرد من أفراد الأسرة مسئولًا وراعيًا أمام الله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- وَالرَّجُلُ رَاعٍ في مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[2].
فإذا ما انتبه كُلُّ أحدٍ من أفراد الأسرة إلى مسؤوليته أمام الله، زالت الفجوة، وذابت الوحشة، وقويت الأسرة.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[3].
إن مسؤولية المسلم عن أهله أمام الله بادية بينة من أول يوم بدأت فيه الدعوة الجهرية، حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ينادي على عشيرته وأهله:
«يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا»[4].
ينادي على أهله! وذلك حتى لا يحدث ذلك الجُوال أو الفصام؛ وهو ذلك السلوك النكد الصادر من بعض الدعاة حينما يأمرون بأمر ولا يأتمرون به؛ ولاسيما على نطاق أُسَرِهم. وهؤلاء لا فضيلة لهم ولا أثر؛ إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج! ولذلك قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. هكذا ليكون الأب أول المؤتمرين بأمره.
قال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية *** وكل سيلقى ربه فيحاسبه
توصية عملية:
إذ كنتَ ترى أن ثمة أسبابًا أخرى لحدوث هذه الفجوة، فلا تبخل بإرشادنا بها.
----------------------
[1] بدائع الفوائد (1 / 83).
[2] أخرجه البخاري (893) ومسلم (4828).
[3] أخرجه ابن ماجه (2053) وغيره، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[4] أخرجه مسلم (522).
الكاتب: محمد مسعد ياقوت.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.